الأحد، 11 أغسطس 2019

قراءة في مضامين كتاب: سلطة الثقافة الغالبة



مقدمة

يقول ابن خلدون: "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده1" 
انطلاقا من هذا النص يمكننا أن ننطلق في تلخيص مضامين هذا الكتاب، فحتى المؤلف إبراهيم السكران يقول بعد أن أورده: "والحقيقة أن هذا...نص تنظيري مكتمل لا أعرف له في التراث الإسلامي ندا في تحليل ظاهرة سلطة الثقافة الغالبة2" 

مقدمة الكتاب

في المقدمة بين إبراهيم السكران أن "سلطة الثقافة الغالبة" لا حظ تأثيرها كثير من العلماء المسلمين على المصلحين والمفكرين منهم الهروي والغزالي وابن تيمية وابن خلدون، ورواد حركة النهضة العربية الذين عملوا على تطويع الشريعة لثقافة الغرب وذلك لشعورهم بالنقص أمامها، كما بين أن فرض فهم معين للدين يتماشى مع السلطة الغالبة من أخطر الوسائل المستعملة في تدجين الشعوب وقولبتها لتذوب في الغالب وثقافته.

ثلاث مداخل نظرية

تحت عنوان: مداخل نظرية تحدث عن ثلاث نقاط أساسية الأولى التناظر بين الاستبداد الثقافي والاستبداد السياسي، وبين فيه أن "الخنوع للمستبد السياسي يكثر عند من يتصل بالمناصب الإدارية، بينما الخنوع للمستبد الثقافي يكثر عند من يتصل بالفكر المعاصر3" 
وتحت عنوان الخضوع المضمر للثقافة الغالبة، وتتجلى في أن الشعارات كتاب وسنة، والتطبيقات البحث عن كل ما يوافق الثقافة الغالبة، ولو بتعسف على النصوص إما في تضعيف الصحيح وتصحيح الضعيف، وإما في لي أعناق النصوص فهما لتنسجم مع مع المطلوب، وهو موافقة هوى الحاكم المستبد، وإما موافقة الثقافة الغربية الغالبة.
وفي عنوان "مصائر الخضوع للثقافة الغالبة، يؤول هذا الخضوع إلى نتائج وخيمة، كالكذب على الله، لذلك وجب بذل الجهد لمقاومة هذا الطريق الخطير.

كيف استقبل الخاضع للثقافة الغالبة؟

في الفصل الأول المعنون ب: "استقبال النص"، تحدث السكران عن نقاط سبعة يبين فيها مظاهر الخضوع لسلطة الثقافة الغالبة، أول مظهر هو عزل النص عن التجربة البشرية، يعني أن تجارب المسلمين لا تلزمنا، رغم أن تعظيم السلف والاهتداء بفهمهم للنص الشرعي دلت عليه نصوص شرعية كثيرة.
المظهر الثاني توظيف مفهوم الوسطية إما إفراطا فيها أو تفريطا، قد يؤدي إلى تحريف الأحكام الشرعية والهدف أن تكون وسطا بين فهم السلف والثقافة الغربية الغالبة، أما المظهر الثالث فيتجلى في تقنية التبعيض، ويرى السكران أن العلمانيين، والليبيراليين، والتنويرين واليساريين، المتأثرين بسلطة الغرب الغالب، أنهم يجزؤون الوحي، يأخذون منه ويدعون والسبب أن يحققوا "شيئا من الطمأنينة الداخلية بأنها ما زالت تتصل بسبب إلى الإسلام، وأنها تنطلق من الإسلام، وأن مشكلتها ليست مع الإسلام4" 
المظهر الرابع عنونه ب "قطعنة الشريعة"، المتجلي في أن التيارات الفكرية المعاصرة تهدف تضييق مجال القطعي في الشريعة الإسلامية وتوسيع المجال الظني، بناء على أن ما يستحق الامتثال هو القطعي، أما الظني فلا حرمة له ولا كرامة فيجوز تركه، أما المظهر الخامس، فهو تتبع الرخص، الذي يسعى لشرعنة المعطيات التي تفرضها الثقافة الغالبة، والمظهر السادس المعنون ب "حاكمية الذوق الغربي"، ومفاده أنه يجب على المسلمين أن يطوروا أحكام الدين الإسلامي مع الذوق المعاصر، وكأنه يقول لك "الذوق المعاصر أرقى من أحكام الوحي5" 
ومن المظاهر أيضا ضغط الثقافة الغالبة على الشعائر، وأعطى مثالا لصلاة الكسوف...

كيف تعامل الخاضع لسلطة الثقافة الغالبة مع العلوم المعيارية الإسلامية؟

الفصل الثاني من كتاب سلطة الثقافة الغالبة: العلوم المعيارية
كيف يتعامل المتأثرون بسلطة الثقافة الغالبة مع العلوم المعيارية؟
في المبحث الأول المعنون بتعديل الجهاز الدلالي، بين السكران أن أصول الفقه مسؤول عن ضبط الدلالة، ومصطلح الحديث مسؤول عن ضبط الثبوت ولأنهما حصن متين أمام جنود الثقافة الغالبة، حاولوا زحزحته من طريقهم لفسح الطريق أمام بذور الفكر الغربي في العلوم الإسلامية، بناء على أن علم أصول الفقه علم اجتهادي قابل للتطور، وأن مؤسسه رجل مجتهد هو الإمام الشافعي في الرسالة، وبين السكران تهافت هذا الطرح بأن علم أصول الفقه هناك أصول فيه قطعية ثابتة غير قابلة للتغيير، وان الإمام الشافعي مواضيع كتبه كلها تعرضت للبحث قبله، وما فعله الشافعي هو إفراد هذه المواضيع البحثية في مصنف مستقل.
في النقطة الثانية من هذا الفصل المعنونة ب: التركيز على الرواة المكثرين، بين فيه أن الطعن في السنة ركز أساسا على الطعن في الرواة المكثرين للحديث الشريف كأبي هريرة....وما يفعل المغلوبون بالثقافة الغربية هو "أنهم يحاكمون المرويات إلى ذوق الأمم الغالبة، وليس إلى القواعد العقلية الموضوعية6"، وغير ذلك من النقاط كتوظيف نقد المتون من طرف القدماء، وما سماه بتعاكس التجديد، وبين أن العلوم الشرعية الابداع والتجديد فيها يركز على القدرة على العودة إلى الأمر الأول، أما العلوم المدنية فالإبداه فيها هو التحرر من الماضي واستحداث الجديد، وهذا الفرق الجوهري غائب عن كثير ممن وقعوا تحت تأثير سلطة الثقافة الغالبة، ثم استراتيجية  اللابديل الذي يهدم فقط.

كيف يرى الخاضع للثقافة الغالبة نظام العلاقات مع الآخر؟

في الفصل الثالث من كتاب: سلطة الثقافة الغالبة، نظام العلاقات،
الحديث فيه "عن بعض التمييزات العلمية الشرعية في التعامل مع المخالف، وقاعدة القرآن في الولاء والبراء، والتي تتعارض كلها مع مفهوم الحرية الليبيرالية في الموقف من المخالف7" 
في النقطة الأولى المعنونة ب: "تمييزات العلاقة بالمخالف"، بين أن المتأثرين بالثقافة الغربية، أهتموا بما سموه الموقف من المخالف، الذي يسمونه أحيانا ب الليبيرالية والحرية، يعملون على تأويل الأحكام الشرعية المعارضة للمخالف، لتنسجم مع تلك الثقافة وغيرهم، وبين أن الموقف من المخالف مفصل في الأحكام الإسلامية، وإثارة هذا الموضوع في سياق تاريخ معين الهدف منه تقويض الفكر الإسلامي وتغريبه.
وفي النفطة الثانية، المعنونة ب: "تفكيك مفهوم الطائفية"، وبين فيه أن الفئة الخاضعة للثقافة الغربية ترى الكثير من النقد الذي يوجه لفئة معينة من الناس هو كلام طائفي ينبغي تجريمه، وإن كان كلاما يبين ضلال بعض الطوائف المنحرفة، لذلك فالطائفية التي تعني "منع ظلم الطائفة المنحرفة فهذا حق8"
في النقطة الموالية، المعنونة ب "لبرلة الولاء والبراء"، ويعني جعلها أن توافق ما تراه الثقافة الغالبة صحيحا، رغم أن الولاء والبراء واضح في القرآن الكريم.
وفي النقطة التالية المعنونة ب: "مفارقات لبرلة الخلاف"، وفكرتها: أن الخاضعين لثقافة الغالب يتحدثون كثيرا حن حرية المخالف حديثا مخالفا للشريعة، وفي ذات الوقت ينتهكون حقوق المخالف الشرعية ذاتها9"، ثم محاولة كسر الخصوصية العيدية، وتسفيه مفهوم الجهاد، والنيل من جناب محمد صلى الله عليه وسلم.

في الختام

كل ما تضمنه هذا الكتاب يلخص في فكرة واحدة: "نمط فهم الدين في مراحل الاستضعاف أمام الأمم الغالبة10".





الهوامش
1 المقدمة 1/283
2 سلطة الثقافة الغالبة ص: 10
3 نفسه ص: 29
4 نفسه ص: 75
5 نفسه ص: 111
6 نفسه ص: 159
7 نفسه ص: 228
8  نفسه ص:  ص: 209
9 نفسه ص: 228
10 نفسه ص: 255

السبت، 3 أغسطس 2019

تلخيص مضامين كتاب: فقه الواقع أصول وضوابط للدكتور أحمد بوعود



مقدمة

ينطلق الدكتور أحمد بوعود في كتابه "فقه الواقع أصول وضوابط" من مسلمة مفادها: أن الفقيه يجد بضاعته مزجاة في فقه الواقع، لذلك يأتي بطامات كبرى فهما وعملا على المستوى الديني والدنيوي، وجاء الكتاب ليعرفنا بمعالم هذا العلم، ولوضعه في مكانه الطبيعي، تصحيحا لاتجاهين وموقفين:
الموقف الأول يرى أن فقه الواقع له الأولوية على كل النصوص الدينية، في حين الموقف الثاني يرى أن النصوص الدينية تغنينا عن فقه الواقع، مما نتج عنه جمود في الاجتهاد.
حلقة الكتاب على قناة الكتب سلاح العقول على اليوتيوب:

ماذا نعني بفقه الواقع؟

بعدما أورد الدكتور أحمد بوعود بعض التعاريف لفقه الواقع، اقترح تعريفا ورأى أن فقه الواقع: "هو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها1".
لفقه الواقع عناصر، يمكن تلخيصها في اكتشاف "قواعد الاجتماع والعمران"، وهذه الجملة يفهم منها أن اكتشاف الواقع رهين بالاطلاع على العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولكن ليس كما وصلتنا من عند الغرب، بل تلك العلوم نشأت لظروف تخالف ظروفنا، وأسباب تخالف أسبابنا، ومناهج تخالف مناهجنا، لذلك يشير المؤلف أنه لا بد من صياغة هذه العلوم صياغة إسلامية.

لماذا فقه الواقع؟

أو بصيغة أخرى: ما المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي نعاني منها؟ أو ما التحديات التي تواجهنا؟
إن الاجتهاد بصفة عامة له شرطان: معرفة وفقه النص في الكتاب والسنة، أو تحرير النص وبيان صحته، والشرط الثاني: فهم أو فقه محل النص وموطن تنزيله، وهما شرطان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، أو بعبارة أخرى: "إن فقه النص لا يتوفر على حقيقته إلا بفهم الواقع2"، ومن توفر فيه الشرطين يستطيع أن يكون اجتهاده مثمرا، وقادرا على التجديد، والإصلاح والنهضة، ومن لم تتوفر فيه، يجعل فقه الواقع إما حكما وله الأولوية على كل نص، وإما مجرد ثرثرة لا يفيد علما ولا أدبا، والحكم هو نص الكتاب والسنة النبوية، وبالتالي يكون فقه الواقع هنا إما مخربا وإما ثانويا لا يلتفت إليه.

الاجتهاد وفقه الواقع: أصول العلاقة

كيف كانت مصادر الإسلام تعتبر الواقع؟ وكيف كانت تقومه وترشده؟
إن موضوع القرآن الأساس: هو الانسان وسعادته، وما في القرآن كله أنزل لخدمة الإنسان، لذلك فواقع الانسان في القرآن كان يراعى دائما، وهذه بعض الأمثلة فقط:
القرآن المكي والمدني، إن اختلاف القرآن المكي والمدني في مواضيعه جاء باختلاف حال الناس زمانا ومكانا وقضايا.
لكل رسول قضية طبعا بعد الدعوة إلى التوحيد، شعيب حارب الفساد الاقتصادي، لوط حارب الفساد الأخلاقي الاجتماعي، موسى حارب الفساد السياسي، وغير ذلك من معالجة القضايا التي كانت تشكل واقع الناس، ومتفشية فيهم، تحتاج إلى إصلاح وتقويم.
الوفاء بحاجة الناس كما نجد في الآيات التي تبدأ بالسؤال والاستفتاء، وغير ذلك من القضايا التي تبين أن القرآن راعى واقع الناس وظروفهم، وعمل على تلبية حاجياتهم.

مكانة الواقع في السنة النبوية وفي سيرة الخلفاء الراشدين:

مراعاة واقع الناس واحتياجاتهم طافح في السنة النبوية، يكفيك أن تقف على الأحاديث التي تشتمل على: "علمني شيئا أقوله"، و: "أي المسلمين خير؟"، و "أي الجهاد أفضل؟"، و "أوصني"، فإنك ستجد السؤال واحد، لكن الأجوبة متعددة، مراعاة لا حتياجات السائل، وغير ذلك من الاحاديث النبوية التي تعمل على مراعاة واقع الناس واحتياجاتهم.
أما مراعاة الواقع عند الخلفاء الراشدين فالأمثلة كثيرة، منها أن عمر بن الخطاب لم يعط للمؤلفة قلوبهم الزكاة لأنه لم يعد هناك حاجة لتأليفهم.

ما ضوابط العلاقة بين الاجتهاد وفقه الواقع؟

للواقع مكانة مهمة في القرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، ولم يكن التعامل مع الواقع اعتباطيا، بل كان خاضعا لقواعد وأصول وضوابط.
من هذه الضوابط:

 أ- ضابط المقاصد:

 يعني أن ينسجم فقه الواقع مع مقاصد الشريعة الإسلامية، الملخصة في جلب المصالح للناس ودفع المضار عنهم، وهذا الضابط أصل يتفرع عنه ضوابط من مصادر التشريع الإسلامي

ب- ضوابط من مصادر التشريع:

جلب المصلحة ودفع المفسدة لا بد أن ينسجم الواقع معها، ويقع ذلك بشروط حددت في مصادر التشريع الإسلامي: كالقياس، والاستصلاح، والاستحسان,,,, وهذه المصادر تضبط العلاقة بين الواقع والاجتهاد، وكل خروج عنها يحرف الدين ويبدل ملامح الشريعة.

من يضبط العلاقة بين الواقع والاجتهاد؟

لا يحق لأي كان أن يضبط هذه العلاقة، فلقد وضع علماء أصول الفقه شروط المجتهد ومن يحق له الاجتهاد، التي تنقسم إلى شروط علمية، وخلقية كشرط العدالة والتقوى.

ختاما:

لا يمكن الحديث عن فقه الواقع دون استحضار الاطلاع على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك أنها علوم تعرفنا بواقعنا بيئيا، واجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا ونفسيا، وهي بهذا مفتاح أساسي لمعرفة كنه هذا العلم الهام في تحديد الداء وإيجاد الدواء المناسب.



الهوامش
1 فقه الواقع أصول وضوابط ص: 42
2 فقه الواقع أصول وضوابط ص: 65


الأربعاء، 17 يوليو 2019

المعالم الفكرية لعلال الفاسي



مقدمة

من الأسئلة التي تشغلني كلما قرأت كتابا جديدا، وعلمت أن جهلي ينمو ويزداد بذلك، سؤال: كيف أطلع على أكبر قدر ممكن مما أنتجه العقل البشري، من مؤلفات ومجلدات، في مختلف المعارف والفنون والعلوم، على مر العصور والأزمان، بغض النظر عن جنسية الكاتب ودينه ومذهبه الفلسفي والسياسي، لذلك أجد نفسي أميل إلى تلك المؤلفات التي تلخص أفكارا كثيرة في صفحات قليلة، ومنها كتاب الدكتور أحمد الريسوني الذي خصصه للحديث عن علال الفاسي وإنتاجه في علوم الشريعة الإسلامية، ك: "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"، و "دفاع عن الشريعة"، وإنتاجه في مجال الفكر الإسلامي، ككتابه الرائد: "النقد الذاتي"، و "إشراقات علال الفاسي الفكرية" وغيرها من الكتب والمؤلفات التي تنتمي إلى هذين الحقلين المعرفيين.
وبعدما توقفنا في التدوينة السابقة عن أهم مضامين كتاب أحمد الريسوني، فإننا في هذه التدوينة سنحاول الوقوف عن بعض معالم فكر وشخصية علال الفاسي.

حلقة التدوينة على اليوتيوب


_المعلم الأول

الظروف والشرط التي ساهمت في تكوين شخصية علال الفاسي الفكرية والسياسية لخصها محمد مصطفى القباج فيما يلي: قصة المغرب مع الاستعمار الفرنسي والاسباني، ومراحل مقاومته والتي سماها: "الشروط الحدثية التي أطرت تاريخيا النسق الفكري لعلال الفاسي" أما المناخ المعرفي والمذهبي الذي يمثل روح النسق فهو مركب من المالكية والسلفية الجديدة، طبعا مع الانفتاح الكبير على ثقافات العصر المختلفة والمتنوعة، وخاصة ذات الخلفية الإيديولوجية الاشتراكية، أو ذات الخلفية الليبيرالية.1

_المعلم الثاني

 تراث علال الفاسي الفكري هو مرآة صادقة للمجتمع المغربي فكريا واجتماعيا واقتصاديا من نهاية القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين، لأنه كما قلنا قصة الاستعمار الذي تعرض له المغرب، شكلت شخصية علال الفاسي الفكرية والسياسية.

_المعلم الثالث

الجمع بين الجهاد السياسي والتنظير الفكري الإصلاحي أي بين ممارسة النضال السياسي والنضال الفكري، وبين التحرير والتخطيط للبناء، مع التأكيد على أن علال السياسي مات، وعلال المفكر ما زال حيا في دنيا الناس، فهو من السياسيين الكبار الذين لا يجارون في ممارساتهم السياسية، كما أنه من المفكرين الذين لم يتوقفوا عن عقد المحاضرات والندوات والتأليفات لتعريف العالم بالمغرب، وما يرزح تحته من استعمار يستغل ثروات البلاد، ويستعبد العباد، ثم للتنظير الفكري لمغرب ما بعد الاستقلال، ولنا في كتاب النقد الذاتي خير مثال، فهو مشروع نهضوي متكامل لمغرب ما بعد الاستقلال.

_المعلم الرابع

 الجمع بين المعرفة الشرعية والمعرفة الفلسفية وخاصة منها الغربية، ولعل أبرز نموذج يمكن سوقه في هذا السياق، قراءته البارعة في كتاب "البديل" للفيلسوف الفرنسي "روجيه جارودي"، الذي كان شيوعيا قبل أن يسلم، ثم أيضا مقارنته للتشريعات الإسلامية بالقوانين الوضعية وخاصة الفرنسية منها.

_ المعلم الخامس

يعترف علال الفاسي أن أفكاره المبثوثة ليست نهائية، وهو نفسه قابل لأن يراجعها في أول خطوة، فهو يعترف في مقدمة كتابه "النقد الذاتي"، بأن ما يعرضه في هذا الكتاب لا يلزم به أحدا وقابل للصواب والخطأ بالتساوي، وحتى بالنسبة إليه ما ورد في هذا الكتاب قابل لأن يراجعه في أول خطوة بينت له أنه أخطأ من حيث أراد الصواب، يقول: "إنني لا أعتبر ما كتبته في النقد الذاتي أفكارا، وإنما هي دلالة على أفكار2"
ويطلب من الباحث أن يتحلى بالبحث والنظر والإيمان بفعالية العقل، ومراجعة كل ما يبدو من المسلمات، والشك حتى في البديهيات، لأن الفكر يبنى  على أساس قوي ومتين، ومنهج رصين، ولأن النقد هو أكثر ما يجعلنا نتقدم إلى الأمام بتبصر.

_المعلم السادس

الاهتمام بمقاصد الشريعة الإسلامية والإبداع فيها، وكتابه "مقاصد الشريعة ومكارمها" خير شاهد على هذا، ولم يتوقف الأمر عند هذا الكتاب، بل نجد البعد المقاصدي في كل مؤلفاته، لما عرض الدكتور إسماعيل الحسني في تحقيق لكتاب المقاصد لعلال الفاسي، تعريفه للمقاصد قال، أن المقصود من الغايات والأسرار هي مصلحة الإنسان، واستدل عليها من كتاب النقد الذاتي، ويقول: "ولعله أدل الكتب على شخصية هذا الأستاذ المتميز والمفكر المتمكن والسياسي المخضرم3"، حتى أنه استطاع أن يكشف عن بعض مقاصد الشريعة الاستعمارية، وفضح بعض المداخل القانونية الاستعمارية لتحقيق أهدافها الاستعمارية ومقاصدها، كما نجد في الظهير البربري.
...........................

الهوامش

1 للتوسع ينظر في رحاب ص: 58_59
2 النقد الذاتي ص: 10
3 مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص: 24







الاثنين، 8 يوليو 2019

تلخيص مضامين كتاب: علال الفاسي عالما ومفكرا




مقدمة

ولد علال الفاسي سنة 1910، أي قبل سنتين من استعمار المغرب من طرف فرنسا وإسبانيا، الذي شكل وعيه، وكون شخصيته، وجعل مقاومته ومطالبته باستقلال المغرب قضيته التي عاش من أجلها وعرض نفسه لوابل من الأخطار التي نجا منها إلى أن توفي سنة 1974 رحمه الله.
يرى الدكتور أحمد الريسوني، أنه إذا كان المغرب قد عرف قديما بالقاضي عياض، فإن المغرب المعاصر يعرف بعلال الفاسي، ذلك أنه ألف كتابا عنوانه: "حديث المغرب في المشرق"، كان موضوعه التعريف بالمغرب وما يعانيه من استغلال للبلاد واستعباد للعباد من طرف المستعمر الفرنسي والإسباني، ومدافعا عن حق بلده في الاستقلال.

رابط حلقة الكتاب في قناة الكتب سلاح العقول:


شخصية علال الفاسي بين الفكر والسياسة

عُني بعلال الفاسي كزعيم سياسي ومناضل في الحركة الوطنية للكفاح الوطني لأجل الاستقلال عناية كبيرة جدا، أما كعالم ومفكر فلم يهتموا به كثيرا، لذلك جاء هذا الكتاب يلقي الضوء على علال الفاسي العالم والمفكر والمصلح، "فهو أحد كبار العلماء المجددين، وأحد المفكرين البارزين، على صعيد العالم الإسلامي كله1"

اجتهادات علال الفاسي الفكرية والشرعية

خصص أحمد الريسوني الفصل الأول لحياة علال الفاسي وفكره، فبعدما سرد محطات من حياته وجهاده السياسي والفكري عرج على أهم آرائه واجتهاده: اهتم بالعلماء ورسالاتهم، وتميزه في مقاصد الشريعة وخاصة في كتابه: "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"، ومن تطبيقاتها: ذهابه إلى أن من مقاصد الشريعة الإسلامية منع الحرب وتحقيق سلام عالمي، ومن آرائه منع تعدد الزوجات، يلخص فكرته في إحدى صفحات كتابه "النقد الذاتي" بالقول: " "إنّني أُقررُ الرأْي بكامل الاطْمئنان النفْسي الذي يُمليه عليّ إيماني بأن شَريعَة الإسْلام صالحة لكل زمان ومكان، ورجائي أَن يكُون في هذه الاعْتِبارات التي أبْدَيْتُها ما يُحقّق تطْبيق مبْدأ الإصْلاح الإسْلامي بمَنْع التّعدد مُطلقًا في هذا العَصْر، إقامةً للعدل، وتقديرًا للمرأة، وحِمايةً للإسلام2"، وغير ذلك من الاجتهادات التي اختص بها.

علال الفاسي مؤلفاته في العلوم الشرعية

خصص الدكتور أحمد الريسوني الفصل الثاني ل: مؤلفات علال الفاسي، وقسمها إلى قسمين:
مؤلفات في العلوم الشرعية أهمها وأشهرها، وبها عرف علال الفاسي شرقا وغربا، كتابه: "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"، ومن خصائص هذا الكتاب أن:
_ أصل الكتاب محاضرات ألقاها علال الفاسي في ثلاث جامعات مغربية عريقة: القرويين بفاس، وكليتي الحقوق في كل من الرباط وفاس، ثم بعد ذلك جمعها ورتبها لتخرج في مؤلف له المكانة العليا ضمن التراث المقاصدي في الغرب الإسلامي بصفة خاصة وفي العالم الإسلامي بصفة عامة.
_ الكتاب فيه اجتهادات مهمة، فكرية نظرية، وما توصل إليه من تفاعلات ميدانية على منوال سائر مؤلفات علال الفاسي رحمه الله.
_ الكتاب عرف مقاصد الشريعة الإسلامية تعريفا جمع فيه المقاصد الكلية منها والجزئية.
_ الكتاب ربط مقاصد الشريعة الإسلامية بحقوق الإنسان.
_ مقصد العدل كوني ومشترك بين الإنسانية، يختلف في تنزيلاته وتطبيقاته.
والكتاب الثاني من علوم الشريعة الإسلامية: دفاع عن الشريعة الإسلامية:
هذا الكتاب جاء كرد فعل لتوقف اللجنة التي كونها محمد الخامس لإخراج قوانين الدولة من خلال الشريعة الإسلامية، بعدما أخرجت فقط قانون مدونة الأحوال الشخصية، واستمرت القوانين الفرنسية يحتكم إليها المواطنون، لذلك فالكتاب جاء يدافع عن الشريعة الإسلامية، باعتبارها مصدر القوانين واستقلال التشريع بها سبب لسيادة الأمة.

علال الفاسي مفكر إسلامي ومصلح اجتماعي

القسم الثاني من مؤلفات علال الفاسي: مؤلفاته الفكرية
من أهم كتب علال الفاسي الفكرية التي تعتبر أفضل معبر عن شخصيته الفكرية "النقد الذاتي"، وجمع هذا الكتاب بعض الخصائص التي أشار إليها الريسوني وهي كما يلي:
_ الكتاب لقي رواجا وقبولا في الأوساط الفكرية، وهو أشهر كتب علال الفاسي على الاطلاق.
_ الكتاب هو أول مؤلف كتبه علال الفاسي بعد أن بلغ أشده وبلغ أربعين سنة.
_ الكتاب من أهدافه الكبرى إيجاد أرضية فكرية وإصلاحية قوية لمغرب الاستقلال.
يعلق أحمد الريسوني عن الكتاب: "فالكتاب وإن كان برنامجا عمليا لتأسيس الدولة المستقلة وبنائها سياسيا وتشريعيا واقتصاديا واجتماعيا، فإنه أيضا كتاب فكر ونظر وفلسفة ونقاش علمي3"
وكتاب إشراقات علال الفاسي الفكرية، وهي عبارة عن أربع محاضرات قدمها في أماكن مختلفة وأزمنة متباعدة، وكتاب الحرية الذي مات ولم يتممه، وغير ذلك من الكتب ما نشر منها وما لم ينشر.

خاتمة

هناك كتب متعددة تناولت فكر علال الفاسي منها:
_ ملامح من شخصية علال الفاسي للمفكر والأديب المغربي عبد الكريم غلاب، والكتاب متوفر الكترونيا.
_ علال الفاسي ينبوع فكر متجدد  للمفكر والأديب المغربي أيضا عبد الكريم غلاب
علال الفاسي رائد التنوير الفكري في المغرب، المفكر السلفي المجدد والزعيم السياسي، لأحمد بابانا العلوي
_ وهناك كتب أخرى متعددة الاهتمامات بهذه الشخصية المكافحة، والقامة الفكرية الشامخة التي هي كما وصفها غلاب ينبوع فكر متجدد.
في التدوينة المقبلة سنقف وقفة مع المعالم الفكرية لعلال الفاسي رحمه الله، بناء على خاتمة هذا الكتاب، وعلى كتاب "في رحاب فكر علال الفاسي" وهو عبارة عن محاضرات ألقيت في مؤسسة علال الفاسي إحياء لذكرى وفاته الخامسة والعشرين.


الهوامش:

1 الدكتور أحمد الريسوني علال الفاسي عالما ومفكرا ص: 14
2 علال الفاسي النقد الذاتي ص: 222
3 علال الفاسي عالما ومفكرا ص: 203

الاثنين، 24 يونيو 2019

على هامش كتاب: حول إعادة تشكيل العقل المسلم



على هامش كتاب: حول إعادة تشكيل العقل المسلم

مقدمة

توقفنا في التدوينة الأولى المخصصة لكتاب عماد الدين خليل "حول إعادة تشكيل العقل المسلم،" عند مضامين الكتاب التي اشتمل عليها،  وبدا لي أنه من المهم الوقوف على بعض القضايا التي تتصل بالكتاب، أو قل ستكون على هامش الكتاب، لأن بعضها له علاقة بالمضمون، وبعضها له علاقة بكتب ومفكرين آخرين، تأثر بهم الكاتب وأخذ منهم بعض أفكارهم، أو قل هناك اتصال بينه وبين كتاب وكتب في الهم المعرفي، أو سؤال النهضة العربي، وهي وقفات أربع كالتالي:

رابط حلقة الكتاب على قناة الكتب سلاح العقول: 


الوقفة الأولى:

أن عماد الدين خليل، يتفق مع كثير من الكتاب والمفكرين في مسلمة مفادها أن العقل المسلم يعيش في عطالة مفتوحة منذ قرون، وهذه المسلمة نجدها مثلا عند المفكر الجزائري مالك بن بني في أحد فصول كتابه: "شروط النهضة"، مثل هذه المسلمات حاول البعض توطينها، باعتبارها رسائل سلبية للإنسان المسلم لأن يستسلم لمصيره وقدره، كما نجد مسلمة أن العربي لا يقرأ، وأن أمة اقرأ لا تقرأ، وأن العقل المسلم متخلف عن ركب الحضارة الإنسانية وجاهل بعلوم عصره، ولا يستطيع أن يتخلص من هذه الوضعية الحضارية بسهولة، مما يجعلنا نتساءل: هل حقيقة العقل المسلم يعيش في عطالة مفتوحة بإطلاق؟

الوقفة الثانية:

تحدث الدكتور عماد الدين خليل في أحد فصول هذا الكتاب عن ما يسمى ب: هيكل الحضارة الإسلامية الذي جعل له ثلاث أضلاع:
الضلع الأول: هو الأرضية، وهي مسخرة للإنسان باعتباره مسؤولا عن عمارة الأرض
 الضلع الثاني: الإنسان، باعتباره هو صانع الحضارة ومشيد العمران
 الضلع الثالث: هو برنامج العمل الذي يلخصه الدين، بناء على أنه يحدد الغاية والأهداف للإنسان.
هذه الأضلاع الثلاثة تجد ما يشابهها عند مالك بن نبي في كل كتاباته تقريبا، وهي صيغة رياضية للنهوض الحضاري، يعني أن الأمة ستنهض إن توفرت على: الإنسان، الوقت، التراب، ويقول أن هذه الصيغة تبقى غير فاعلة وسلبية إذا لم تجد دينا يحركها أو فكرة توجهها، وكمثال على ذلك يمكننا الحديث عن الحضارة الإسلامية باعتبارها حضارة ناتجة عن دين، ودولة الاتحاد السوفياتي الناتجة عن فكرة، مما يعني أن هذا الكتاب يلخص بعض الرؤى لزعماء الإصلاح المسلمين في رؤية واحدة مركبة موجزة.

الوقفة الثالثة:

وهي وقفة لها علاقة بالوقفة السابقة: قرأت عند الدكتور فهمي جدعان، خاصة في كتابه: "أسس التقدم عند مفكري الإسلام"، أن كل زعماء النهضة العربية في العصر الحديث باختلاف مرجعياتهم، ومشاريعهم الإصلاحية، هم عالة أو لنقل نتيجة لانفتاحهم على تراث ابن خلدون وخاصة "المقدمة" وفي رؤيته في المسيرة الحضارية للدول، وأعمارها وفترات تكونها، مع التأكيد على أنهم يختلفون معه تقريبا في حالة واحدة، وهي أن أفول الدول ليس قدرا محتوما، بل يمكننا تجاوزه، ومنهم مالك بن نبي، والذي جاء بعد مالك بن نبي وقد يكون منهم عماد الدين خليل هم عالة على تراث المفكر الجزائري عماد الدين خليل.

الوقفة الرابعة والأخيرة:

كل فصول كتاب "حول إعادة تشكيل العقل المسلم" تجدها معادة ومكررة في كتاب آخر للدكتور عماد الدين خليل، وهذا الكتاب هو "مدخل إلى الحضارة الإسلامية"، طبعا بصيغة مختلفة، وعناوين متقاربة، أو قل بمعنى آخر، أنك لو قرأت كتاب مدخل إلى الحضارة الإسلامية، يمكنك أن تستغني عن كتاب: "حول إعادة تشكيل العقل المسلم"، ومن الجدير بالذكر هنا، أن نؤكد على أن كتاب موضوع الحلقة قد يكون مفتاحا لكثير من المشاريع الفكرية الأخرى لزعماء الإصلاح.

ختاما:

-         ما ذكرته في هذه التدوينة، هو استنتاجات شخصية، قابلة للخطأ والصواب، فمن رأى خطأ هذه الأفكار فليصوب مشكورا مأجورا.
-         هذه الملاحظات أو الوقفات لا تقلل أبدا لا من شأن الكاتب عماد الدين خليل ولا من شأن كتابه موضوع التدوينة، لذلك، فما يكتبه عماد الدين خليل خاصة في تخصصه الأصلي "التاريخ الإسلامي"، جدير بأن يقرأ، ويعرف به، وينشره بين القراء.


الأحد، 26 مايو 2019

قصتي مع الفلسفة 2 ماذا يتبادر إلى ذهني عندما أسمع كلمة "فلسفة"؟



مقدمة

في التدوينة السابقة، كان محورها نقطتين مهمتين:
النقطة الأولى: بيان أن التفكير الفلسفي بدأ مع بداية الإنسان، لكن الفلسفة كتفكير منهجي نسقي منظم نشأت في بلاد اليونان.
النقطة الثانية: بيان أن تعريف الفلسفة عائم جدا، لم يستطع من اشتغل بها أن أوجد تعريفا لها يطوي الجدل حولها والخلاف، أما هذه التدوينة فسوف أتناول فيها ما كان تمثلي حول الفلسفة قبل بدء قراءة كتب تتعلق بها.

ماذا يتبادر إلى ذهني عندما أسمع كلمة "فلسفة"؟

لكل منا له تمثل على الفلسفة، وضرورة دراستها من عدمه، وهل تقود إلى الإيمان أم تقود إلى الإلحاد، أم لا تقود لا إلى هذا ولا إلى ذاك.
لا أنكر أني كنت أؤمن وبعمق أنه "من تفلسف فقد تزندق"، كما سيأتي في تدوينة لاحقة، بغض النظر عن هذا، فقد كان يتبادر إلى ذهني حين أسمع كلمة "فلسفة" أمران اثنان:

التمثل الأول عن الفلسفة

كلام صعب، مفاهيم صعبة، ولا يشتغل بها إلا عميقو التفكير، ومن لديهم قدرة عقلية خارقة، وكنت دوما أنظر إلى من يدرس الفلسفة، أنه عميق التفكير، ومنطقي فيه، وأكثر فهما مقارنة مع باقي دارسي التخصصات الأخرى.

التمثل الثاني عن الفلسفة

رجل ذو شعر طويل، أشعث أغبر، لا يهتم بمظهره، ولا يعير أي اهتمام لمحيطه، ودائما يحمل سيجارة في يده، إني أراه دائما منشغل البال، وقابعا في التفكير ومتأملا في قضايا فلسفية، حتى إني كنت أتخيله، يضل طريقه وهو متجه لقضاء مآربه، وكنت أرى المتشردين لهم حظ كبير من الفسلفة.
تصحيح التمثل الأول عن الفلسفة
في الأمر الأول يمكن أن يتفق معي فيه، كل من أراد أن يقرأ كتبا فلسفية وبدأ على سبيل المثال، بالكتب النقدية للفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" "نقد العقل الخالص"، و"نقد العقل العملي" ونقد ملكة الحكم"، لكنه سيختلف معي  كل من قرأ بعضا من المحاورات التي ألفها أفلاطون على لسان سقراط. وكما يعلم الجميع، طريقة الحوار، حوار سهل بسيط المفاهيم، يأخذ باللب، ويغري بأسلوبه،....... ربما يرجع بساطة أسلوبه أنه كان يتجول في الأسواق، ويناقش العامة من الناس، وليس الخاصة فقط.
يقول سقراط عن وظيفته: "أيها الأثينيون! أنا أحبكم وأمجدكم، ولكني لابد أن أطيع الله أكثر مما أطيعكم، فلن أمسك عن اتخاذ الفلسفة وتعليمها ما دمت حياً قوياً، أسائل بطريقتي أياً صادفت بأسلوبي، وأهيب به قائلاً: ما لي أراك يا صاح تعني ما وسعتك العناية بجمع المال، وصيانة الشرف، وذيوع الصوت، ولا تنشد من الحكمة والحق وتهذيب النفس إلا أقلها، فهي لا تصادف من عنايتك قليلاً ولا تزن عندك فتيلاً، وأنت ابن أثينا، مدينة العظمة والقوة والحكمة؟ ألا يخجلك ذلك؟ فأن أجاب محدثي قائلاً: بلى، ولكني معني بها، فلن أخلي سبيله ليمضي من فوره، بل أسائله وأناقشه وأعيد معه النقاش، فان رأيته خلواً من الفضيلة، وأنه يقف منها عند الحد القول والادعاء، أخذت في تأنيبه، لأنه يحقر ما هو جليل، ويسمو بما هو دنئ وضيع؛ سأقول لذلك لكل من صادفه، سواء أكان شاباً أم كان شيخاً، غريباً أم كان من الوطن، لكني سأخص بعنايتي بني وطني، لأنهم إخواني، تلك كلمة الله فاعلموها. ولا أحسب الدولة قد ظفرت من الخير بأكثر مما قمت به ابتغاء مرضاة الله، وما فعلت إلا أن أهبت بكم جميعاً، شيباً وشباناً، أن انصرفوا إلى أنفسكم وما تملكون، وبادروا أولاً بتهذيب أنفسكم تهذيباً كاملاً، وها أنذا أعلنكم أن الفضيلة لا تشترى بالمال، ولكنها هي المعين الذي يتدفق منه المال ويفيض بالخير جميعاً، سواء في ذلك خير الفرد وخير المجموع1"

تصحيح التمثل الثاني عن الفلسفة

أما النقطة الثانية، فالواقع يشهد لي أن الأمر ليس كذلك، وأن الناس معادن، تختلف في الآراء، والأفكار، كما تختلف في الأذواق.

استنتاج وخاتمة

وفي النهاية اقتنعت أن دراسة الفلسفة كفلسفة، هي ما عبر عنها، "رجب بودبوس"، في كتابه: "تبسيط الفلسفة": "مهمة تدريس الفلسفة هي حث فكر المبتدئ ليفكر ليفهم، هي غرس الحس النقدي فيه، فلا يقبل ولا يرفض إلا ببرهان واضح، إنها تربية استقلالية فكرية عند الدارس. اختلاف الآراء والمذاهب لا يقدم لكي يشل تفكير الدارس، بل لكي يبرهن له على أن الحقيقة ليست ملك أحد من الماضي ولا من الحاضر، ولم يقل فيها أحد الكلمة الأخيرة، وهي بهذا مقدمة ضرورية للعلوم لأنها تدمر الجمود والتبعية والتلقي والببغاوية2"
___________________________________
الهوامش
محاورات أفلاطون ص: 92
تبسيط الفلسفة ص: 09






السبت، 25 مايو 2019

وقفات مع كتاب: حول إعادة تشكيل العقل المسلم لعماد الدين خليل


تمهيد

كتاب هذه التدوينة هو كتاب لمفكر إسلامي عراقي، له إنتاجات فكرية مهمة خاصة في التاريخ الإسلامي، من مؤلفاته: التفسير الإسلامي للتاريخ، ومدخل إلى التاريخ الإسلامي، المفكر هو عماد الدين خليل، والكتاب "حول إعادة تشكيل العقل المسلم.
ولد المفكر العراقي عماد الدين خليل في مدينة الموصل العراقية سنة 1939، حاصل على الماستر والدكتوراه في التاريخ الإسلامي، لذلك جل مؤلفاته لها علاقة بمجال تخصصه.

مقدمة

ينطلق الدكتور عماد الدين خليل في كتابه "حول إعادة تشكيل العقل المسلم"، من الاعتراف بأن العقل المسلم منذ مدة، يعاني من عطالة مفتوحة، لم يستطع أن يساهم في إنتاج الحضارة، وإبداع ما يجعل الإنسان يعيش في رخاء مادي وهناء روحي، وطمأنينة فؤاد، وسكون قلب، ولهذا فإنه مطالب بإعادة تشكيله، وذلك بتصحيح تصوراته حول الرؤية الكونية المتكاملة والشمولية للإسلام، ثم تخليصه من النظرة التجزيئية للتحديات التي تواجه نهضته من جديد.

تحولات العقل المسلم التي أحدثها الإسلام فيه

عندما جاء الإسلام، أحدث تحولا كبيرا في بنية عقلية الإنسان العربي المسلم، على المستوى التصوري الاعتقادي، وعلى المستوى المعرفي، وعلى المستوى المنهجي، لذلك أنتج لنا حضارة، بكل تركيباتها وتعقيداتها، فقد أنتجت عقلا منفتحا على جميع الثقافات المختلفة، كالفلسفة اليونانية، والتراث الفارسي الهندي، لكن هذا الانفتاح كان على مستوى محدود، ذلك أنه كان ينتقي ما يناسب طبيعة الدين الإسلامي وخصائصه ومقوماته ومن مراحل هذا الانتفتاح: "الانتقاء الحضاري"، التي تعني عملية انتقاء ما يناسب روح الإسلام مما عند الأمم الأخرى، وبعد هذه المرحلة كان الإبداع والاغناء والاكتشاف، "الابداع بعد الانتقاء"، ثم "النقل الجغرافي والانتشار"، وذلك بعدم البخل على الأمم بإنتاجات الحضارة الإسلامية.

هيكل حضارة الإسلام

إن الهيكل الحضاري للحضارة الإسلامية، حسب الدكتور عماد الدين خليل، له ثلاث أضلاع: الأرضية، وهي مسخرة للإنسان، ليست سهلة لا تجعل للناس أي دور فيها وعليها، وليست مستحيلة يعجز الإنسان عن الابداع فيها، بل صعبة تجعل الإنسان يتحدى ليكون صانعا للحضارة، ومشيدا للعمران، أما الضلع الثاني فهو مَلك الأضلاع وهو "الإنسان، الذي خلقه الله للاستخلاف في الأرض، وزوده بالقدرة على التعلم، والقدرة على الفعل والإنجاز والإبداع، وكرمه بأن أسجد له الملائكة، ثم عاقبه بأن أنزله من السماء إلى الأرض ليجزي من أحسن، وليعاقب من أساء، أما الضلع الثالث فهو "برنامج العمل" وهو "الدين" باعتباره منهجا متكاملا لعيش حياة وفق مبادئه وقيمه يساعد الإنسان على ممارسة وظيفته الحضارية وهو الاستخلاف والعمران.
"إن الدين وفق هذه الرؤية يبدو برنامجا حضاريا.. وهو يكمل ويناظر طرفي المسألة الآخرين: الأرضية والإنسان. وما دامت الحياة الدنيا تعني –في المنظور الديني عموما- تجربة اختبار وابتلاء، فمعنى هذا أنها تتطلب منا عملا دائما وإبداعا متواصلا"1"
وفي هذا الفعل الحضاري، جاء الدين وحدد الهدف من فاعلية الإنسان في هذا الكون، وهو "عبادة الله وحده، بالمفهوم الدين الشامل"، وهو هدف تدعو إليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، "عبادة الله، والتوجه إليه، والتلقي عنه،.." ويدعو الإسلام الإنسان المؤمن أن يسخر كل إمكانياته على مر العصور والأزمان أن يتحرك بكل الوسائل الممكنة لتعمل البشرية على تحقيق هذا الهدف الكبير الذي ينسجم مع القوانين الإلهية والسنن الكونية.

المسلم بين الجبر والاختيار

ولتحقيق هذا الهدف، _عبادة الله..وتشييد الحضارة_ نجد أنفسنا بقدر ما نحن مجبرين في أشياء كثيرة تتعلق بوجودنا، بقدر ما نحن مخيرين في أمور أخرى أكثر اتساعا: كالفكرة التي نتخذها عن الوجود، وعن الأفعال والأهداف والمعطيات التي نقدمها للحياة.. وهذه المساحة التي نعيش فيها مخيرين، تجعلنا نقف أمام الكثير من القضايا المتعلقة بوجودنا على طريقتين: طريق ينسجم والسنن الكونية، والقوانين الإلهية وبالتالي، فإننا سنبدع حضارة، ونشيد عمرانا، ينتفع به الإنسان، يعيش بسببها في سعة رزق، وهناء روح، وسعادة قلب، وكان هذا هو هدف الأديان السماوية التي سعت لتحقيقه في دنيا الناس، وعلى منوالها دعا الإسلام الإنسان المسلم أن يعمل على تحقيق نفس الهدف، أما الطريق الثاني، فإنه طريق يخالف السنن الكونية، والنواميس الإلهية، فيعجز الإنسان أن يصنع حضارة، وأن يبدع عمرانا، ولن يشعر بسكينة ولا طمأنينة، يعيش في ضنك وفي تعب وفي نصب، لا تعرف راحة البال طريقا إليه.

ملامح الحضارة الإسلامية

إن للفعل الحضاري حسب الرؤية الإسلامية ملامح، تتجلى في روح العمل والإبداع الذي نجد الآيات القرآنية أعطته حيزا كبيرا نظرا لأهميته في الفعل الحضاري، والبناء العمراني لتحقيق الاستخلاف، وتتجلى أيضا في الأمر بالإصلاح ومواجهة كل محاولة للفساد والإفساد، باعتباره من أهم المقاصد القرآنية التي هدف إلى تحقيقها في دنيا الناس، وتتجلى أيضا في التوازن بين الثنائيات وتوحدها "إننا بإزاء حركة حضارية تربط، وهي تطلب من الإنسان أن ينظر في السماوات والأرض، بين مسألة الإيمان ومسألة الإبداع، بين التلقي عن الله والتوغل قدما في مسالك الطبيعة ومنحنياتها وأغاميضها، بين تحقيق مستوى روحي عال للإنسان على الأرض وبين تسخير قوانين الكيمياء والفيزياء والرياضيات لتحقيق الدرجة نفسها من التقدم والعلو الحضاري على المستوى المادي المدني"2"، ثم التناغم والوفاق مع الطبيعة والعالم والكون، "فما دامت قوى الطبيعة وطاقاتها قد سخرت أساسا لخدمة الإنسان ومساعدته على الرقي الحضاري وإعمار العالم، فإن العلاقة بينهما...علاقة انسجام وتقابل، وتواصل وتعاون، وتكامل وكشف وتنقيب"3"، ثم الميزة التحريرية سواء على المستوى التصوري، أو المعرفي، أو المنهجي، "إن إحدى كبريات البداهات الدينية التي نتعلمها من القرآن الكريم، أن الحلال هو القاعدة العريضة في ميادين الإشباع الغريزي جميعا: طعاما وشرابا وجنسا ومسكنا وملبسا، وأن التحريم مسألة استثنائية محدودة المساحة، ضيقتها، حتى إن القرآن ليعتبر توسيعها بشكل اعتباطي كفرا وافتراء على الله"4"، ثم في النهاية الإسلام لا يعتبر الإنجاز الحضاري هدفا نهائيا، بل الآخره هي الغاية.

خاتمة
وختم الدكتور عماد الدين خليل كتابه بخاتمة عنوانها: "نحو تكنولوجية إسلامية"، واعتبر مفتاح تقدمنا نابع من مفتاحين: التغيير الذاتي، على جميع مكونات الإنسان وأولاهما العقل "إن الله لا يغيروا ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" والإعدادي الذاتي،  في سائر المجالات ويؤكد على الأخذ بناصية العلم والتقنية، وختتم بالقول: " والمفاتيح عندنا أولا وأخيرا، فإن لم نصل اليوم الذي نبني فيه مختبراتنا ونشغلها بعقولنا،.. ونصنع سلاحنا ونستخدمه بأيدينا.. إن لم نعد تشكيل عقولنا لكي تعمل كما أراد لها الإسلام أن تعمل.. فلن تكون لنا خارطة أو مكان في هذا العالم، ولن يكون بمقدور ألف سنة أخرى من الاتكالية وصور التعبد والذكر القائمة أن تصنع المعجزة"5" ص: 151
_______________________________
الهوامش
1_  حول إعادة تشكل العقل المسلم : ص: 104-105
2_نفسه ص: 121-122
3_ نفسه ص: 127
4_نفسه ص: 132
5_ نفسه ص: 151

جميع الحقوق محفوظة © 2019 مدونة الكتب سلاح العقول
محمد : الكاس